فصل: الفصل الثاني والثلاثون في إبطال صناعة النجوم وضعف مداركها وفساد غايتها

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  الفصل الحادي والثلاثون في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها

هذا الفصل ومابعده مهم لأن هذه العلوم عارضة في العمران كثيرة في المدن‏.‏ وضررها في الدين كثير فوجب أن يصدع بشأنها ويكشف عن المعتقد الحق فيها‏.‏ وذلك أن قوماً من عقلاء النوع الإنساني زعموا أن الوجود كله الحسي منه وماوراء الحسي تدرك ذواته وأحواله بأسبابها وعللها بالأنظار الفكرية والأقيسة العقلية وأن تصحيح العقائد الإيمانية من قبل النظر لا من جهة السمع فإنها بعض من مدارك العقل‏.‏ وهؤلاء يسمون فلاسفة جمع فيلسوف وهو باللسان اليوناني محب الحكمة‏.‏ فبحثوا عن ذلك وشمروا له وحوموا على إصابة الغرض منه ووضعوا قانوناً يهتدي به العقل في نظره إلى التمييز بين الحق والباطل وسموه بالمنطق‏.‏ ومحصل ذلك أن النظر الذي يفيد تمييز الحق من الباطل إنما هو للذهن في المعاني المنتزعة من الموجودات الشخصية فيجرد منها أولاً صوراً منطبقة على جميع الأشخاص كما ينطبق الطابع على جميع النقوش التي ترسمها في طين أو شمع‏.‏ وهذه المجردة من المحسوسات تسمى المعقولات الأوائل‏.‏ ثم تجرد من تلك المعاني الكلية إذا كانت مشتركة مع معان أخرى وقد تميزت عنها في الذهن فتجرد منها معان أخرى وهي التي اشتركت بها ثم تجرد ثانياً إن شاركها غيرها وثالثاً إلى أن ينتهي التجريد إلى المعاني البسيطة الكلية المنطبقة على جميع المعاني والأشخاص ولا يكون منها تجريد بعد هذا وهي الأجناس العالية‏.‏ وهذه المجردات كلها من غير المحسوسات هي من حيث تأليف بعضها مع بعض لتحصيل العلوم منها تسمى المعقولات الثواني‏.‏ فإذا نظر الفكر في هذه المعقولات المجردة وطلب تصور الوجود كما هو فلا بد للذهن من إضافة بعضها إلى بعض ونفي بعضها عن بعض بالبرهان العقلي اليقيني ليحصل تصور الوجود تصوراً صحيحاً مطابقاً إذا كان ذلك بقانون صحيح كما مر‏.‏ وصنف التصديق الذي هو تلك الإضافة والحكم متقدم عندهم على صنف التصور في النهاية والتصور متقدم عليه في البداية والتعليم لأن التصور التام عندهم هو غاية الطلب الإدراكي وإنما التصديق وسيلة له وما تسمعه في كتب المنطقيين من تقدم التصور وتوقف التصديق عليه فبمعنى الشعور لا بمعنى العلم التام وهذا هو مذهب كبيرهم أرسطو‏.‏ ثم يزعمون أن السعادة في إدراك الموجودات كلها ما في الحس وما وراء الحس بهذا النظر وتلك البراهين‏.‏ وحاصل مداركهم في الوجود على الجملة وما آلت إليه وهو الذي فرعوا عليه قضايا أنظارهم أنهم عثروا أولاً‏:‏ على الجسم السفلي بحكم الشهود والحس ثم ترقى إدراكهم قليلاً فشعروا بوجود النفس من قبل الحركة والحس بالحيوانات ثم أحسوا من قوى النفس بسلطان العقل‏.‏ ووقف إدراكهم فقضوا على الجسم العالي السماوي بنحو من القضاء على أمر الذات الإنسانية‏.‏ ووجب عندهم أن يكون للفلك نفس وعقل كما للإنسان ثم أنهوا ذلك نهاية عدد الآحاد وهي العشر تسع مفصلة ذواتها جمل وواحد أول مفرد وهو العاشر‏.‏ ويزعمون أن السعادة في إدراك الوجود على هذا النحو من القضاء مع تهذيب النفس وتخلقها بالفضائل وأن ذلك ممكن للإنسان ولو لم يرد شرع لتمييزه بين الفضيلة والرذيلة من الأفعال بمقتضى عقله ونظره وميله إلى المحمود منها واجتنابه للمذموم بفطرته وأن ذلك إذا حصل للنفس حصلت لها البهجة واللذة وأن الجهل بذلك هو الشقاء السرمدي وهذا عندهم هو معنى النعيم والعذاب في الآخرة إلى خبط لهم في تفاصيل ذلك معروف من كلماتهم‏.‏ وإمام هذه المذاهب الذي حصل مسائلها ودون علمها وسطر حجاجها فيما بلغنا في هذه الأحقاب هو أرسطو المقدوني من أهل مقدونية من بلاد الروم من تلاميذ أفلاطون وهو معلم الإسكندر ويسمونه‏:‏ المعلم الأول على الإطلاق يعنون معلم صناعة المنطق إذ لم تكن قبله مهذبة‏.‏ وهو أول من رتب قانونها واستوفى مسائلها وأحسن بسطها‏.‏ ولقد أحسن في ذلك القانون ما شاء لو تكفل له بقصدهم في الإلهيات‏.‏ ثم كان من بعده في الإسلام من أخذ بتلك المذاهب واتبع فيها رايه حذو النعل بالنعل إلا في القليل وذلك أن كتب أولئك المتقدمين لما ترجمها الخلفاء من بني العباس من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي تصفحها كثير من أهل الملة وأخذ من مذاهبهم من أضله الله من منتحلي العلوم وجادلوا عنها واختلفوا في مسائل من تفاريعها وكان من أشهرهم أبو نصر الفارابي في المائة الرابعة لعهد سيف الدولة وأبو علي بن سينا في المائة الخامسة لعهد نظام الملك من بني بويه بأصبهان وغيرهما‏.‏ واعلم أن هذا الرأي الذي ذهبوا إليه باطل بجميع وجوهه‏.‏ فأما إسنادهم الموجودات كلها إلى العقل الأول واكتفاؤهم به في الترقي إلى الواجب فهو قصور عما وراء ذلك من رتب خلق الله فالوجود أوسع نطاقاً من ذلك ‏"‏ ويخلق ما لا تعلمون ‏"‏ وكأنهم في اقتصارهم على إثبات العقل فقط والغفلة عما وراءه بمثابة الطبيعيين المقتصرين على إثبات الأجسام خاصة المعرضين عن النقل والعقل المعتقدين أنه ليس وراء الجسم في حكمة الله شيء‏.‏ وأما البراهين التي يزعمونها على مدعياتهم في الموجودات ويعرضونها على معيار المنطق وقانونه فهي قاصرة وغير وافية بالغرض‏.‏ أما ما كان منها في الموجودات الجسمانية ويسمونه العلم الطبيعي فوجه قصوره أن المطابقة بين تلك النتائج الذهنية التي تستخرج بالحدود والأقيسة كما في زعمهم وبين ما في الخارج غير يقيني لأن تلك أحكام ذهنية كلية عامة والموجودات الخارجية متشخصة بموادها‏.‏ ولعل في المواد ما يمنع من مطابقة الذهني الكلي للخارجي الشخصي الفهم إلا ما يشهد له الحس من ذلك فدليله شهوده لا تلك البراهين فأين اليقين الذي يجدونه فيها وربما يكون تصرف الذهن أيضاً في المعقولات الأول المطابقة للشخصيات بالصور الخيالية لا في المعقولات الثواني التي تجريدها في الرتبة الثانية فيكون الحكم حينئذ يقينياً بمثابة المحسوسات‏.‏ إذ المعقولات الأول أقرب إلى مطابقة الخارج لكمال الانطباق فيها فنسلم لهم حينئذ دعاويهم في ذلك‏.‏ إلا أنه ينبغي لنا الإعراض عن النظر فيها إذ هو من ترك المسلم لما لا يعنيه فإن مسائل الطبيعيات لا تهمنا في دينا ولا معاشنا فوجب علينا تركها‏.‏ وأما ما كان منها في الموجودات التي وراء الحس وهي الروحانيات ويسمونه العلم الإلهي وعلم ما بعد الطبيعة فإن ذواتها مجهولة رأساً ولا يمكن التوصل إليها ولا البرهان عليها لأن تجريد المعقولات من الموجودات الخارجية الشخصية إنما هو ممكن فيما هو مدرك لنا‏.‏ ونحن لا ندرك الذوات الروحانية حتى نجرد منها ماهيات أخرى بحجاب الحس بيننا وبينها فلا يتأتى لنا برهان عليها ولا مدرك لنا في إثبات وجودها على الجملة إلا ما نجده بين جنبينا من أمر النفس الإنسانية وأحوال مداركها وخصوصاً في الرؤيا التي هي وجدانية لكل أحد وما وراء ذلك من حقيقتها وصفاتها فأمر غامض لا سبيل إلى الوقوف عليه‏.‏ وقد صرح بذلك محققوهم حيث ذهبوا إلى أن ما لا مادة له لا يمكن البرهان عليه لأن مقدمات البرهان من شرطها أن تكون ذاتية‏.‏ وقال كبيرهم أفلاطون‏:‏ إن الإلهيات لا يوصل فيها إلى يقين وإنما يقال فيها بالأحق والأولى يعني الظن‏.‏ وإذا كنا إنما نحصل بعد التعب والنصب على الظن فقط فيكفينا الظن الذي كان أولاً فأي فائدة لهذه العلوم والاشتغال بها ونحن إنما عنايتنا بتحصيل اليقين فيما وراء الحس من الموجودات وهذه هي غاية الأفكار الإنسانية عندهم‏.‏ وأما قولهم إن السعادة في إدراك الموجودات على ما هي عليه بتلك البراهين فقول مزيف مردود وتفسيره أن الإنسان مركب من جزأين‏:‏ أحدهما جسماني والآخر روحاني ممتزج به ولكل واحد من الجزأين مدارك مختضة به والمرك فيهما واحد وهو الجزء الروحاني يدرك تارة مدارك روحانية وتارة مدارك جسمانية إلأ أن المدارك الروحانية يدركها بذاته بغير واسطة والمدارك الجسمانية بواسطة آلات الجسم من الدماغ والحواس‏.‏ وكل مدرك فله ابتهاج بما يدركه‏.‏ واعتبره بحال الصبي في أول مداركه الجسمانية التي هي بواسطة كيف يبتهج بما يبصره من الضوء وبما يسمعه من الأصوات فلا شك أن الابتهاج بالإدراك الذي للنفس من ذاتها بغير واسطة يكون أشد وألذ‏.‏ فالنفس الروحانية إذا شعرت بإدراكها الذي لها من ذاتها بغير واسطة حصل لها ابتهاج ولذة لا يعبر عنها وهذا الإدراك لا يحصل بنظر ولا علم وإنما يحصل بكشف حجاب الحس ونسيان المدارك الجسمانية بالجملة‏.‏ والمتصوفة كثيراً ما يعنون بحصول هذا الإدراك للنفس بحصول هذه البهجة فيحاولون بالرياضة إماتة القوى الجسمانية ومداركها حتى الفكر من الدماغ ليحصل للنفس إدراكها الذي لها من ذاتها عند زوال الشواغب والموانع الجسمانية فيحصل لهم بهجة ولذة لا يعبرعنها‏.‏ وهذا الذي زعموه بتقدير صحته مسلم لهم وهو مع ذلك غير واف بمقصودهم‏.‏ فأما قولهم‏:‏ إن البراهين والأدلة العقلية محصلة لهذا النوع من الإدراك والابتهاج عنه فباطل كما رأيته إذ البراهين والأدلة من جملة المدارك الجسمانية لأنها بالقوى الدماغية من الخيال والفكر والذكر‏.‏ ونحن نقول إن أول شيء نعنى به في تحصيل هذا الإدراك إماتة هذه القوى الدماغية كلها لأنها منازعة له قادحة فيه‏.‏ وتجد الماهر منهم عاكفاً على كتاب الشفاء والإشادات والنجاة وتلاخيص ابن رشد للقص من تأليف أرسطو وغيره يبعثر أوراقها ويتوثق من براهينها ويلتمس هذا القسط من السعادة فيها ولا يعلم أنه يستكثر بذلك من الموانع عنها‏.‏ ومستندهم في ذلك ما ينقلونه عن أرسطو والفارابي وابن سينا أن من حصل له إدراك العقل الفعال واتصل به في حياته فقد حصل حظه من هذه السعادة‏.‏ والعقل الفعال عندهم عبارة عن أول رتبة ينكشف عنها الحس من رتب الروحانيات ويحملون الاتصال بالعقل الفعال على الإدراك العلمي وقد رأيت فساده‏.‏ وإنما يعني أرسطو وأصحابه بذلك الاتصال والإدراك إدراك النفس الذي لها من ذاتها وبغير واسطة وهو لا يحصل إلا بكشف حجاب الحس‏.‏ وأما قولهم‏:‏ إن البهجة الناشئة عن هذا الإدراك هي عين السعادة الموعود بها فباطل أيضاً لأنا إنما تبين لنا بما قرروه أن وراء الحس مدركاً آخر للنفس من غير واسطة وأنها تبتهج بإدراكها ذلك ابتهاجاً شديداً وذلك لا يعين لنا أنه عين السعادة الأخروية ولا بد بل هي من جملة الملاذ التي لتلك السعادة‏.‏ وأما قولهم‏:‏ إن السعادة في إدراك هذه الموجودات على ما هي عليه فقول باطل مبني على ما كنا قدمناه في أصل التوحيد من الأوهام والأغلاط في أن الوجود عند كل مدرك منحصر في مداركه وبينا فساد ذلك وأن الوجود أوسع من أن يحاط به أو يستوفى إدراكه بجملته روحانياً أو جسمانياً‏.‏ والذي يحصل من جميع ما قررناه من مذاهبهم أن الجزء الروحاني إذا فارق القوى الجسمانية أدرك إدراكاً ذاتياً له مختصاً بصنف من المدارك وهي الموجودات التي أحاط بها علمنا وليس بعام الإدراك في الموجودات كلها إذ لم تنحصر وأنه يبتهج بذلك النحو من الإدراك ابتهاجاً شديداً كما يبتهج الصبي بمداركه الحسية في أول نشوئه‏.‏ ومن لنا بعد ذلك بإدراك جميع الموجودات أو بحصول السعادة التي وعدنا بها الشارع إن لم نعمل لها هيهات هيهات لما توعدون‏.‏ وأما قولهم‏:‏ إن الإنسان مستقل بتهذيب نفسه وإصلاحها بملابسة المحمود من الخلق ومجانبة المذموم فأمر مبني على أن ابتهاج النفس بإدراكها الذي لها من ذاتها هو عين السعادة الموعود بها لأن الرذائل عائقة للنفس عن تمام إدراكها ذلك بما يحصل لها من الملكات الجسمانية وألوانها‏.‏ وقد بينا أن أثر السعادة والشقاوة من وراء الإدراكات الجسمانية والروحانية‏.‏ فهذا التهذيب الذي توصلوا إلى معرفته إنما نفعه في البهجة الناشئة عن الإدراك الروحاني فقط الذي هو على مقاييس وقوانين‏.‏ وأما ما وراء ذلك من السعادة التي وعدنا بها الشارع على امتثال ما أمر به من الأعمال والأخلاق فأمر لا يحيط به مدارك المدركين‏.‏ وقد تنبه لذلك زعيمهم أبو علي ابن سينا فقال في كتاب المبدإ والمعاد ما معناه‏:‏ إن المعاد الروحاني وأحواله هو مما يتوصل إليه بالبراهين العقلية والمقاييس لأنه على نسبة طبيعية محفوظة ووتيرة واحدة فلنا في البراهين عليه سعة‏.‏ وأما المعاد الجسماني وأحواله فلا يمكن إدراكه بالبرهان لأنه ليس على نسبة واحدة وقد بسطته لنا الشريعة الحقة المحمدية فلينظر فيها ولنرجع في أحواله إليها‏.‏ فهذا العلم كما رأيته غير واف بمقاصدهم التي حوموا عليها مع ما فيه من مخالفة الشرائع وظواهرها‏.‏ وليس له فيما علمنا إلا ثمرة واحدة وهي شحذ الذهن في ترتيب الأدلة والحجاج لتحصيل ملكة الجودة والصواب في البراهين‏.‏ وذلك أن نظم المقاييس وتركيبها على وجه الإحكام والإتقان هو كما شرطوه في صناعتهم المنطقية وقولهم بذلك في علومهم الطبيعية وهم كثيراً ما يستعملونها في علومهم الحكمية من الطبيعيات والتعاليم وما بعدها فيستولي الناظر فيها بكثرة استعمال البراهين بشروطها على ملكة الإتقان والصواب في الحجاج والاستدلالات لأنها وإن كانت غير وافية بمقصودهم فهي أصح ما علمناه من قوانين الأنظار‏.‏ هذه هي ثمرة هذه الصناعة مع الاطلاع على مذاهب أهل العلم وآرائهم ومضارها ما علمت‏.‏ فليكن الناظر فيها متحرزاً جهده من معاطبها وليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه ولا يكبن أحد عليها وهو خلو من علوم الملة فقل أن يسلم لذلك من معاطبها‏.‏ والله الموفق للصواب وللحق والهادي إليه‏.‏ وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله‏.‏

  الفصل الثاني والثلاثون في إبطال صناعة النجوم وضعف مداركها وفساد غايتها

هذه الصناعة يزعم أصحابها أنهم يعرفون بها الكائنات قي عالم العناصر قبل حدوثها من قبل معرفة قوى الكواكب وتأثيرها في المولدات العنصرية مفردة ومجتمعة‏.‏ فتكون لذلك أوضاع الأفلاك والكواكب دالة على ما سيحدث من نوع نوع من أنواع الكائنات الكلية والشخصية‏.‏ فالمتقدمون منهم يرون أن معرفة قوى الكواكب وتأثيراتها بالتجربة وهو أمر تقصر الأعمار كلها لو اجتمعت عن تحصيله إذ التجربة إنما تحصل في المرات المتعددة بالتكرار ليحصل عنها العلم والظن‏.‏ وأدوار الكواكب منها ما هو طويل الزمن فيحتاج تكرره إلى آماد وأحقاب متطاولة يتقاصر عنها ما هو طويل من أعمار العالم‏.‏ وربما ذهب ضعفاء منهم إلى أن معرفة قوى ومن أوضح الأدلة فيه أن تعلم أن الأنبياء عليهم الضلاة والسلام أبعد الناس عن الصنائع وأنهم لا يتعرضون للأخبار عن الغيب إلأ أن يكون عن الله فكيف يدعون استنباطه بالصناعة ويشيرون بذلك لتابعيهم من الطق‏.‏ وأما بطليموس ومن تبعه من المتأخرين فيرون أن دلالة الكواكب على ذلك دلالة طبيعية من قبل مزاج يحصل للكواكب في الكائنات العنصرية قال لأن فعل النيرين وأثرهما في العنصريات ظاهر لا يسع أحداً جحده مثل فعل الشمس في تبدل الفصول وأمزجتها ونضج الثمار والزرع وغير ذلك وفعل القمر في الرطوبات والماء وإنضاج المواد المتعفنة وفواكه القناء وسائر أفعاله‏.‏ ثم قال‏:‏ ولنا فيما بعدهما من الكواكب طريقتان‏:‏ الأولى التقليد لمن نقل ذلك عنه من أئمة الصناعة إلا أنه غير مقنع للنفس‏.‏ والثانية الحدس والتجربة بقياس كل واحد منها إلى النير الأعظم الذي عرفنا طبيعته وأثره معرفة ظاهرة فننظر هل يزيد ذلك الكوكب عند القرآن في قوته ومزاجه فتعرف موافقته له في الطبيعة أو ينقص عنها فتعرف مضادته‏.‏ ثم إذا عرفنا قواها مفرعة عرفناها مركبة وذلك عند تناظرها بأشكال التثليث والتربيع وغيرهما ومعرفة ذلك من قبل طبائع البروج بالقياس أيضاً إلى النير الأعظم‏.‏ وإذا عرفنا قوى الكواكب كلها فهي مؤثرة في الهواء وذلك ظاهر‏.‏ والمزاج الذي يحصل منها للهواء يحصل لما تحتها من المولدات وتتخلق به النطف والبزر فتصير حالاً للبدن المتكون عنها وللنفس المتعلقة به الفائضة عليه المكتسبة لما لها منه ولما يتبع النفس والبدن من الأحوال لأن كيفيات البزرة والنطفة كيفيات لما يتولد عنهما وينشأ منهما‏.‏ قال وهو مع ذلك ظني وليس من اليقين في شيء وليس هو أيضاً من القضاء الإلهي يعني القدر إنما هو من جملة الأسباب الطبيعية للكائن والقضاء الإلهي سابق على كل شيء‏.‏ هذا محصل كلام بطليموس وأصحابه وهو منصوص في كتابه الأربع وغيره‏.‏ ومنه يتبين ضعف مدرك هذه الصناعة‏.‏ وذلك أن العلم الكائن أو الظن به إنما يحصل عن العلم بجملة أسبابه من الفاعل والقابل والصورة والغاية على ما تبين في موضعه‏.‏ والقوى النجومية على ما قرروه إنما هي فاعلة فقط والجزء العنصري هو القابل‏.‏ ثم إن القوى النجومية ليست هى الفاعل بجملتها بل هناك قوى أخرى فاعلة معها في الجزء المادي مثل قوة التوليد للأب والنوع التي في النطفة وقوى الخاصة التي تميز بها صنف صنف من النوع وغير ذلك‏.‏ فالقوى النجومية إذا حصل كمالها وحصل العلم فيها إنما هي فاعل واحد من جملة الأسباب الفاعلة للكائن‏.‏ ثم إنه يشترط مع العلم بقوى النجوم وتأثيراتها مزيد حدس وتخمين وحينئذ يحصل عنده الظن بوقوع الكائن‏.‏ والحدس والتخمين قوى للناظر في فكره وليس من علل الكائن ولا من أصول الصناعة فإذا فقد هذا الحدس والتخمين رجعت أدراجها عن الظن إلى الشك‏.‏ هذا إذا حصل العلم بالقوى النجومية على سداده ولم تعترضه آفة وهذا معوز لما فيه من معرفة حسبانات الكواكب في سيرها لتتعرف به أوضاعها ولما أن اختصاص كل كوكب بقوة لا دليل عليه‏.‏ ومدرك بطليموس في إثبات القوى للكواكب الخمسة بقياسها إلى الشمس مدرك ضعيف لأن قوة الشمس غالبة لجميع القوى من الكواكب ومستولية عليها فقل أن يشعر بالزيادة فيها أو النقصان منها عند المقارنة كما قال وهذه كلها قادحة في تعريف الكائنات الواقعة في عالم العناصر بهذه الصناعة‏.‏ ثم إن تأثير الكواكب فيما تحتها باطل إذ قد تبين في باب التوحيد أن لا فاعل إلا الله بطريق استدلالي كما رأيته‏.‏ واحتج له أهل علم الكلام بما هو غني عن البيان من أن إسناد الأسباب إلى المسببات مجهول الكيفية والعقل متهم على ما يقضي به فيما يظهر بادئ الرأي من التأثير فلعل استنادها على غير صورة التأثير المتعارف‏.‏ والقدرة الإلهية رابطة بينهما كما ربطت جميع الكائنات علواً وسفلاً سيما والشرع يرد الحوادث كلها إلى قدرة الله تعالى ويبرأ مما سوى ذلك‏.‏ والنبوات أيضاً منكرة لشأن النجوم وتأثيراتها‏.‏ واستقراء الشرعيات شاهد بذلك في مثل قوله‏:‏ ‏"‏ إن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته ‏"‏ وفي قوله‏:‏ ‏"‏ أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي‏.‏ فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب ‏"‏ الحديث الصحيح‏.‏ فقد بان لك بطلان هذه الصناعة من طريق الشرع وضعف مداركها مع ذلك من طريق العقل مع ما لها من المضار في العمران الإنساني بما تبعث في عقائد العوام من الفساد إذا اتفق الصدق من أحكامها في بعض الأحايين اتفاقاً لا يرجع إلى تعليل ولا تحقيتي فيلهبج بذلك من لا معرفة له ويظن اطراد الصدق في سائر أحكامها وليس كذلك‏.‏ فيقع في رد الأشياء إلى غير خالقها‏.‏ ثم ما ينشأ عنها كثيراً في الدول من توقع القواطع وما يبعث عليه ذلك التوقع من تطاول الأعداء المتربصين بالدولة إلى الفتك والثورة‏.‏ وقد شاهدنا من ذلك كثيراً فينبغي أن تحظر هذه الصناعة على جميع أهل العمران لما ينشأ عنها من المضار في الدين والدول ولا يقدح في ذلك كون وجودها طبيعياً للبشر بمقتضى مداركهم وعلومهم‏.‏ فالخير والشر طبيعتان موجودتان في العالم لا يمكن نزعهما وإنما يتعلق التكليف بأسباب حصولهما فيتعين السعي في اكتساب الخير بأسبابه ودفع أسباب الشر والمضار‏.‏ هذا هو الواجب على من عرف مفاسد هذا العلم ومضاره‏.‏ وليعلم من ذلك أنها وإن كانت صحيحة في نفسها فلا يمكن أحداً من أهل الملة تحصيل علمها ولا ملكتها بل إن نظر فيها ناظر وظن الإحاطة بها فهو في غاية القصور في نفس الأمر‏.‏ فإن الشريعة لما حظرت النظر فيها فقد الاجتماع من أهل العمران لقراءتها والتحليق لتعليمها وصار المولع بها من الناس وهم الأقل وأقل من الأقل إنما يطالع كتبها ومقالاتها في كسر بيته متستراً عن الناس وتحت ربقة الجمهور مع تشعب الصناعة وكثرة فروعها واعتياصها على الفهم فكيف يحصل منها على طائل‏.‏ ونحن نجد الفقه الذي عم نفعه ديناً ودنيا وسهلت مآخذه من الكتاب والسنة وعكف الجمهورعلى قراءته وتعليمه ثم بعد التحقيق والتجميع وطول المدارسة وكثرة المجالس وتعددها إنما يحذق فيه الواحد بعد الواحد في الأعصار والأجيال‏.‏ فكيف يعلم مهجور للشريعة مضروب دونه سد الحظر والتحريم مكتوم عن الجمهور صعب المآخذ محتاج بعد الممارسة والتحصيل لأصوله وفروعه إلى مزيد حدس وتخمين يكتنفان به من الناظر فأين التحصيل والحذق فيه مع هذه كلها‏.‏ ومدعي ذلك من الناس مردود على عقبه ولا شاهد له يقوم بذلك لغرابة الفن بين أهل الملة وقلة حملته فاعتبر ذلك يتبين لك صحة ما ذهبنا إليه‏.‏ والله أعلم بالغيب فلا يظهر على غيبه أحداً‏.‏ ومما وقع في هذا المعنى لبعض أصحابنا من أهل العصر عندما غلب العرب عساكر السلطان أبي الحسن وحاصروه بالقيروان وكثر إرجاف الفريقين الأولياء والأعداء وقال في ذلك أبو القاسم الروحي من شعراء أهل تونس‏:‏ أستغفر الله كل حين قد ذهب العيش والهناء أصبح في تونس وأمسي والصبح لله والمساء الخوف والجوع والمنايا يحدثها الهرج والوباء والناس في مرية وحرب وماعسى ينفغ المراء فأحمدي يرى علياً حل به الهلك والتواء وآخر قال سوف يأتي به إليكم صباً رخاء والله من فوق ذا وهذا يقضي لعبديه مايشاء ياراصد الخنس الجواري ما فعلت هذه السماء مطلتمونا وقد زعمتم أنكم اليوم أملياء مر خميس على خميس وجاء سبت وأربعاء ونصف شهر وعشر ثان وثالث ضمه القضاء رضيت بالله لي إلهاً حسبكم البدر أو ذكاء ما هذه الأنجم السواري إلا عباديد أو إماء يقضى عليها وليس تقضي ومالها في الورى اقتضاء ضلت عقول ترى قديماً ما شأنه الجرم والفناء وحكمت فى الوجود طبعاً يحدثه الماء والهواء لم تر حلواً إزاء مر تغذ وهمو تربة وماء الله ربي ولست أدري ما الجوهر الفرد والخلاء ولا الهيولى التي تنادي ما لي عن صورة عراء ولا وجود ولا انعدام ولا ثبوت ولا انتفاء ولست أدري ما الكسب إلا ما جلب البيع والشراء وإنما مذهبي وديني ما كان والناس أولياء إذ لا فصول ولا أصول ولا جدال ولا ارتياء أنا أجزي بالشر شراً والخير عن مثله جزاء وإنني إن أكن مطيعاً فلست أعصي ولي رجاء وإنني تحت حكم بار أطاعه العرش والثراء ليس انتصار لكم ولكن أتاحه الحكم والقضاء لو حدث الأشعري عمن له إلى رأيه انتماء لقال أخبرهم بأني مما يقولونه براء